يعتبر مجال الخلق, وإفنائه, وإعادة خلقه, من المجالات الغيبية التي لا يستطيع الإنسان أن يصل فيها إلي تصور صحيح بغير هداية ربانية, ومن هنا فإن العلوم التجريبية لا يمكن لها أن تتجاوز في تلك المجالات مرحلة التنظير بمعني وضع نظرية من النظريات أو اقتراح فرض من الفروض.
وتتعدد الفروض والنظريات بتعدد خلفية واضعيها العقدية والثقافية والتربوية والنفسية, ويبقي للمسلم في هذا المجال نور من الله الخالق في آية من كتابه الكريم, أو في حديث مروي بسند صحيح عن خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله وسلم عليه وعليهم أجمعين) يمكن أن يعينه علي الارتقاء بإحدي تلك النظريات العلمية إلي مقام الحقيقة لمجرد ورود اشارة لها في أي من هذين المصدرين من مصادر وحي السماء اللذين حفظا بحفظ الله باللغة نفسها التي نزل الوحي بها( اللغة العربية) علي مدي أربعة عشر قرنا ـ أو يزيد ـ دون نقص أو زيادة, ونكون في هذه الحالة قد انتصرنا للعلم بالوحي الثابت من كتاب الله المحفوظ بحفظه, أو بسنة رسوله( صلي الله عليه وسلم) وهي من الوحي, ولم ننتصر لهما بالعلم المكتسب لأنهما فوق ذلك وأعظم وأجل..!!
فمجرد ورود إشارة في كتاب الله أو في حديث مروي بسند صحيح عن خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) إلي ما يدعم إحدي النظريات العلمية التي لم يتوصل إليها العلم المكتسب إلا بعد مجاهدة كبيرة, عبر سنوات طويلة, استغرقت جهود آلاف من العلماء يرقي بهذه النظرية إلي مقام الحقيقة, ويعتبر إعجازا علميا في كتاب الله أو في سنة رسوله( صلي الله عليه وسلم) لمجرد السبق بالإشارة إلي تلك الحقيقة العلمية قبل وصول الإنسان إليها بفترة زمنية طويلة تقدر بأكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي) في محكم كتابه:
"ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا"
(الكهف:51)
والقرآن الكريم الذي يقرر أن أحدا من الإنس أو الجن لم يشهد خلق السماوات والأرض, هو الذي يأمرنا بالنظر في قضية الخلق( خلق السماوات والأرض, خلق الحياة, وخلق الإنسان) بعين الاعتبار والاتعاظ فيقول( عز من قائل):
"أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ.."( الأعراف:185)
ويقول( سبحانه):
"لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
(غافر:57)
ويقول( سبحانه وتعالي):
"أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت"
(الغاشية:17)
ويقول( تبارك وتعالي):
" أولم يروا كيف يبديء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك علي الله يسير. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الآخرة إن الله علي كل شيء قدير"
(العنكبوت:19 و20)
وبالنظر في السماء توصل علماء الفلك والفيزياء الفلكية إلي عدد من النظريات المفسرة لنشأة الكون وإفنائه, وأكثر هذه النظريات قبولا في الأوساط العلمية اليوم هما نظريتا الانفجار العظيم
(TheBigBangTheory)
والانسحاق العظيم
(TheBigCrunchTheory)
وكلاهما يستند إلي عدد من الحقائق المشاهدة.
الشواهد العلمية علي صحة نظرية الانفجار العظيم
(1) التوسع الحالي للكون المشاهد:
وهي حقيقة اكتشفت في الثلث الأول من القرن العشرين, ثم أكدتها حسابات كل من الفيزيائيين النظريين والفلكيين, والتي لاتزال تقدم مزيدا من الدعم والتأييد لتلك الحقيقة المشاهدة بأن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تكاد تقترب أحيانا من سرعة الضوء( المقدرة بحوالي300000 كيلو متر في الثانية), وقد سبق القرآن الكريم كل تلك المعارف بأكثر من ثلاثة عشر قرنا إذ يقول الحق( تبارك وتعالي):
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون
( الذاريات:47)
وإذا عدنا بهذا الاتساع الكوني الراهن إلي الوراء مع الزمن فإن كافة ما في الكون من صور المادة والطاقة والمكان والزمان لابد أن تلتقي في جرم واحد, متناه في ضآلة الحجم إلي ما يقترب من الصفر أو العدم, فيتلاشي كل من المكان والزمان, ومتناه في ضخامة الكتلة والحرارة إلي الحد الذي تتوقف عنده قوانين الفيزياء النظرية, وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله تعالي فنشر مختلف صور الطاقة, والمادة الأولية, للكون في كل اتجاه, وتخلقت من تلك الطاقة المادة الأولية, ومن المواد الأولية تخلقت العناصر علي مراحل متتالية, وبدأ الكون في الاتساع, ومع اتساعه تعاظم كل من المكان والزمان, وتحولت مادة الكون إلي سحابة من الدخان الذي خلقت منه الأرض وكل أجرام السماء, وما يملأ المسافات بينها من مختلف صور المادة والطاقة, وظل الكون في التمدد والتوسع منذ لحظة الانفجار العظيم إلي يومنا الراهن, وإلي أن يشاء الله( تعالي).
والانسحاق الشديد هو عملية معاكسة لعملية الانفجار الكوني الكبير تماما.
(2) اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك:
وقد اكتشفها بمحض المصادفة باحثان بمختبرات شركة بل للتليفونات بمدينة نيوجرسي هما أرنو أ. بنزياس
(ArnoA.Penzias)
وزميله روبرت و. ويلسون
(RobertW.Wilson)
في سنة1965 م علي هيئة اشارات راديوية منتظمة وسوية الخواص, قادمة من كافة الاتجاهات في السماء, وفي كل الأوقات دون أدني توقف أو تغير, ولم يمكن تفسير تلك الاشارات الراديوية, المنتظمة, السوية الخواص إلا بأنها بقية الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم, وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الاشعاعية بحوالي ثلاث درجات مطلقة( أي ثلاث درجات فوق الصفر المطلق الذي يساوي ـ273 درجة مئوية)
وفي نفس الوقت كانت مجموعة من الباحثين العلميين في جامعة برنستون تتوقع حتمية وجود بقية للإشعاع الناتج عن عملية الانفجار الكوني الكبير, وإمكانية العثور علي تلك البقية الاشعاعية بواسطة التليسكوبات الراديوية, وذلك بناء علي الاستنتاج الصحيح بأن الاشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار تلك قد صاحب عملية التوسع الكوني, وانتشر بانتظام وسوية عبر كل من المكان والزمان في فسحة الكون, ومن ثم فإن بقاياه المنتشرة إلي أطراف الجزء المدرك من الكون لابد أن تكون سوية الخواص, ومتساوية القيمة في كل الاتجاهات, ومستمرة ومتصلة بلا أدني انقطاع, وبالإضافة إلي ذلك فإن هذا الاشعاع الكوني لابد أن يكون له طيف مماثل لطيف الجسم المعتم, بمعني أن كمية الطاقة الناتجة عنه في مختلف الموجات يمكن وصفها بدرجة حرارة ذات قيمة محددة, وأن هذه الحرارة التي كانت تقدر ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة عند لحظة الانفجار الكوني لابد أن تكون قد بردت عبر عمر الكون المقدر بعشرة بلايين من السنين علي الأقل, إلي بضع درجات قليلة فوق الصفر المطلق. وانطلاقا من تلك الملاحظات الفلكية والنظرية كان في اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون دعم عظيم لنظرية الانفجار الكوني, وقضاء مبرم علي نظرية ثبات الكون واستقراره التي اتخذت تكؤة لنفي الخلق, وإنكار الخالق( سبحانه وتعالي) منذ مطلع القرن العشرين.
ولم تكن مجموعة جامعة برنستون بقيادة كل من روبرت دايك
(RobertDicke)
, ب.ج. إ. بيبلز
(P.J.E.Peebles)
, ديفيد رول
(DavidRoll)
وديفيد ولكنسون
(DavidWilkinson)
هي أول من توقع وجود الخلفية الاشعاعية للكون, فقد سبقهم إلي توقع ذلك كل من رالف ألفر
(RalphAlpher)
وروبرت هيرمان
(RobertHerman)
في سنة1948 م وجورج جامو
(GeogeGamow)
في سنة1953 م ولكن استنتاجاتهم أهملت ولم تتابع بشيء من الاهتمام العلمي فطويت في عالم النسيان.